الصفحات

الخميس، 6 ديسمبر 2018

أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي-14

وذكر القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) رواية تدل على دقته في التشخيص
 وهي: 
إن ابن ملكا كان جالساً في مجلسه للإقراء، وعليه ثوب أطلس مثمن أحمر اللون من خلع السلجوقي، إذ دخل عليه رجل من أوساط أهل بغداد، وشكا إليه سعالاً أدركه وقد طالت مدته ولم ينجع فيه دواء، فأمره بالجلوس
 وقال له: 
إذا سعلت شيئاً فلا تتفله حتى أقول لك ما تصنع، فجلس ساعة وقطع فاستدعاه إليه، وأدخل يده في كم ذلك الثوب الأطلسي وقال له:
 اتفل فيه، فتوقف خشية على موضع يده من الثوب، فتفل وضم ابن ملكا يده على ما فيها من الثوب والتفلة، وأخذ فيما الجماعة فيه من استفهام وإفهام ساعة، ثم فتح يده ونظر إلى الثوب وموضع التفلة منه ساعة يقلبه ويتأمله ثم قال لبعض الحاضرين: اقطع من هذه الشجرة نارنجة وأحضرها، وكان في داره شجرة نارنج حاملة، ففعل الرجل المأمور ذلك، فلما أحضر النارنجة قال للرجل الشاكي كل هذه، فقال أيها الحكيم متى أكلته مت
 فقال:
 إن أردت العافية فقد وصفتها لك، فشرع الرجل وأكل منها أولاً فأولا إلى أن استنفدها، وقال له امض وانظر ما يكون في ليلتك، فمضى الرجل، ولما كان في اليوم الثاني حضر وهو متألم فقال ما جرى لك؟ 
قال:
 ما نمت لكثرة ما نالني من السعال
 فقال لأحد الجماعة:
 أحضر لي نارنجة من تلك الشجرة إياها
 فقال للشاكي:
 كلها أيضاً
 فقال: 
إذا أكلتها ما يبقى في الموت شك
 فقال: 
كلها فهي الدواء
 فأكلها الرجل ومضى
 فلما كان في اليوم الثالث جاء فسأله عن حاله
 فقال: 
بت خير مبيت ولم أسعل، فقال له برأت ولله الحمد وإياك وأكل النارنج بعدها
 وإن تأكل بعدها نارنجة أخرى يحصل لك ما لا يرجى لك برءه
 وأمره بما يستعمل في المستقبل. 
فلما خرج المريض من مجلسه سأله الجماعة عن السبب
 فقال:
أخذت تفلته في الثوب الأطلسي الأحمر وأحميتها في كفي ساعة
 ونظرت فيها هل بقي بعدما تشربه الثوب مما تفل كالقشور والنخالة فلم أجده
 ولو وجدته دلني على أن السعال من قرح إما في الرئة أو في الصدر
 وكلاهما صعب
فلما لم أجد شيئاً من ذلك علمت أنه بلغم لزج زجاجي وقد لحج بقصبة الرئة وآلات التنفس
 فأردت جلاءه من هناك
 وأمرته بتناول النارنجة
 فلما عاد إلي ووجد شدة علمت أنها قد جلت وقطعت ما هناك ولم تستنفده، فأمرته بتناول الأخرى فجلت ما بقي، ونهيته عن استعمال أخرى لئلا يقرح الموضع بكثرة الجلاء
 فيقع فيما احترزنا منه، فاستحسن الحاضرون ذلك من صناعته اللطيفة.
 وأخيراً.
 لقد تلقى هبة الله بن ملكا البغدادي جميع علومه التي تفنن فيها على كبار علماء العرب والمسلمين في بغداد
 ففاضت قريحته، ولمع اسمه بين معاصريه حتى صار إنتاجه متداولاً بين العلماء في العلوم آنذاك
 وهناك نوع من الإجماع بين مؤرخي العلوم على أنه يعدّ بحق من عباقرة العالم الذين وضعوا الأسس الهامة، وأضافوا الأفكار المنيرة في علمي الطبيعة والطب، حقاً لقد أنجبت الحضارة العربية والإسلامية من العلماء الأفذاذ من لا يستطيع مؤرخ في العلوم أن يتجاهلهم، ومن بينهم..هبة الله بن ملكا البغدادي
 الذي تردد اسمه في كتب المستشرقين، ونعتوه بالعالم اللامع بين علماء عصره في العلوم الطبيعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق