السبت، 28 أبريل 2018

هجرة الكواكب 3

وفي العقود التي تلت اكتشاف پلوتو عام 1930، ازداد الغموض الذي يكتنف هذا الكوكب. وقد وجد الفلكيون أن معظم المدارات التي تقطع مدار نپتون غير مستقرة ـ فالجرم الذي يسير في مثل هذه المدارات إما أن يصطدم بنپتون، وإما أن يُقذف به من النظام الشمسي الخارجي خلال زمن قصير نسبيا، طوله عادة أقل من 1 في المئة من عمر النظام الشمسي.
لكن المدار المتميّز الذي يسبح فيه پلوتو والقاطع لمدار نپتون محمي من الاقترابات الكبيرة من العملاق الغازي بسبب ظاهرة تسمى تَرجُّح الرنين resonance libration. إن پلوتو ينجز دورتين حول الشمس خلال الزمن الذي ينجز فيه نپتون ثلاثا؛ ومن ثم يقال إن مدار پلوتو يوجد في حالة رنين 2:3 مع مدار نپتون.
وتضمن الحركتان النسبيتان للكوكبين أنه عند اجتياز پلوتو لمدار نپتون، فإنه يكون بعيدا جدا عن الكوكب الأكبر. وفي الواقع، فإن المسافة بين پلوتو ونپتون لا تقل أبدا عن 17 وحدة فلكية.
وفضلا على ذلك، فإن حضيض perihelion پلوتو ـ أي أقرب نقطة من مداره إلى الشمس ـ يقع دوما فوق مستوي مدار نپتون، وهذا يحافظ على الاستقرار المداري الطويل الأمد لپلوتو. هذا وإن المحاكيات الحاسوبية للحركات المدارية للكواكب الخارجية، التي تأخذ في اعتبارها تأثيرات اضطراباتها المتبادلة، تشير إلى أن عمر العلاقة بين مداري پلوتو ونپتون يمتد إلى بلايين السنين، وسيستمر بلايين أخرى من السنين.
 وپلوتو منخرط في رقصة كونية رشيقة مع نپتون تمكّنه من تفادي التصادمات مع العملاق الغازي طوال العمر الكلي للنظام الشمسي.
تُرى، كيف جرت الأمور التي أسفرت عن مثل هذا المدار الغريب لپلوتو؟ لقد أثار هذا السؤال في الماضي عدة تفسيرات حدسية، وكانت كلها تتضمن مواجهات كوكبية.
بيد أن ثمة تطورات جوهرية حدثت منذ عهد قريب تتعلق بفهم الدينامية المعقدة لظاهرة الرنين بين المدارات، وبتحديد الدور الذي يتسم بالازدواجية في توليد كل من الشواش chaos والاستقرار الاستثنائي في النظام الشمسي.
واستنادا إلى هذه المجموعة الجديدة من التطورات، تقدمتُ عام 1993 بفرضية مؤداها أن پلوتو وُلِدَ وراء نپتون في منطقة تفصلها عنه مسافة ليست كبيرة، وأنه كان يسير في البداية في مدار قريب من الدائري وذي ميل طفيف، مثلما هي الحال في الكواكب الأخرى، لكنه نُقِلَ إلى مداره الحالي بوساطة التآثرات التثاقلية الرنينية resonant gravitational interactions مع نپتون.
 إن إحدى السمات الرئيسية لهذه النظرية هي أنها لا تستند إلى الفرضية القائلة بأن الكواكب الغازية العملاقة تكوّنت مفصولة عن الشمس بنفس مسافاتها (أبعادها) الحالية. وتذهب فرضيتنا، خلافا للفرضيات الأخرى، إلى أنه حدثت هجرة للمدارات الكوكبية في وقت مبكر من تاريخ النظام الشمسي، وأن مدار پلوتو غير المألوف دليل على هذه الهجرة.



لقد بدأت هذه الهجرة في مرحلة كانت فيها عملية تكوّن الكواكب قد اكتملت تقريبا، وليس تماما. وكانت العمالقة الغازية ـ المشتري وزحل وأورانوس ونپتون ـ أنهت تقريبا تكتّلها من السديم الشمسي، ولكن مجموعة متخلفة من الكويكبات planetesimals ـ وهي أجسام جليدية وصخرية، معظمها لا يزيد قطره على بضع عشرات من الكيلومترات ـ بقيت بين هذه العمالقة. أما التطور اللاحق الأبطأ نسبيا للنظام الشمسي فكان يتمثل في تبعثر scattering أو تنامي accretion الكويكبات بفعل الكواكب الرئيسية (انظر الشكل في الصفحة 12). ولأن التبعثر الكوكبي أدى إلى قذف معظم حطام الكويكبات إلى مدارات بعيدة أو غير معروفة ـ خارج النظام الشمسي في معظم الحالات ـ حدث فَقْد محسوس للطاقة المدارية والزخم الزاوي من مدارات الكواكب العملاقة. ولكن كتلها المختلفة والمسافات المتفاوتة التي تفصلها عن الشمس، جعلت تقاسم هذا الفقد غير متساو بين الكواكب العملاقة الأربعة.



لننظر، بوجه خاص، في التطور المداري لنپتون، وهو أبعد الكواكب العملاقة حينما كان يبعثر سرب الكويكبات الواقعة في جواره. ففي البداية، كانت الطاقة المدارية النوعية المتوسطة للكويكبات (أي الطاقة المدارية لوحدة الكتلة) مساوية للطاقة المدارية النوعية المتوسطة لنپتون نفسه، ومن ثم فلم يكسب نپتون أو يفقد طاقة من التآثرات التثاقلية مع هذه الأجسام. بيد أن سرب الكويكبات قرب نپتون استُنْزِف في وقت لاحق من الأجسام المنخفضة الطاقة التي انتقلت إلى المجال التثاقلي للكواكب العملاقة الأخرى. وقد جرى قذف معظم الكويكبات هذه في نهاية الأمر خارج النظام الشمسي بوساطة المشتري الذي هو أثقل الكواكب جميعا.



وهكذا، وبمرور الوقت، تجاوزت الطاقة المدارية النوعية للكويكبات التي قابلها نپتون الطاقةَ المدارية النوعية لنپتون ذاته. وخلال التبعثرات التالية، كسب نپتون طاقة مدارية وهاجر باتجاه الخارج. كذلك، فإن زحل وأورانوس كسبا طاقة مدارية وارتحلا بحركة لولبية نحو الخارج. وبالمقابل، فإن المشتري فَقَدَ طاقة مدارية، ووازَن فقده هذا ما كسبته الكواكب الأخرى والكويكبات، مما أدى إلى الحفاظ على الطاقة الكلية للنظام. بيد أنه لما كان المشتري ثقيلا جدا ومتزودا بطاقة مدارية وزخم زاوي كبيرين، فإن تأثر مداره كان ضئيلا.



كان أول وصف لاحتمال حدوث مثل هذه التعديلات الدقيقة في مدارات الكواكب العملاقة في مقالة نُشرت عام 1984 ولم تلفت إليها انتباها يذكر، كتبها <A .J. فرنانديز> من أوروگواي و<H-W. إپ> من تايوان، وهما فلكيان كانا يعملان معا بمعهد ماكس پلانك في ألمانيا. وبقي بحثهما هذا مغمورا ولم يعلّق عليه أي من العلماء النظريين الذين يدرسون تكوّن الكواكب، وربما كان سبب ذلك أن البحث لم يدعم بأي أرصاد ولم يتوصل إلى نتائج نظرية.



وفي عام 1993 قدمتُ نظريةً تنص على أنه بينما كان مدار نپتون يتوسع ببطء، فإن المدارات الرنانة مع مدار نپتون كانت تتوسع أيضا. وفي الحقيقة، فلا بد من أن تكون هذه المدارات اندفعت بقوة عبر پلوتو، بافتراض أن هذا الكوكب كان أصلا يسبح في مدار قريب من الدائري، ميله صغير، ويقع وراء نپتون. وقد بيّنتْ حساباتي أن هناك احتمالا كبيرا بأن أي أجسام من هذا القبيل لا بد من أنها كانت معرضة باحتمال كبير لأن «تؤسر» وتُدفع نحو الخارج على طول المدارات الرنينية خلال هجرة نپتون. وفيما كانت هذه الأجسام تتحرك نحو الخارج، فلا بد من أن تكون الاختلافات المركزية لمداراتها وميول هذه المدارات قد أخذت قيما أكبر بفعل عزم الدوران التثاقلي الرنيني الذي يؤثر به نپتون. (يشبه هذا الأثر الزيادة في سعة نوسان (تذبذب) أرجوحة في ملعب، وذلك بالقيام بدفعها دفعات دورية صغيرة بتردد يساوي التردد الطبيعي للأرجوحة.) ومن ثم فإن الاختلاف المركزي الأعظم النهائي سيوفّر قياسا مباشرا للمسافة التي ارتحلها نپتون. ووفقا لهذه النظرية، فإن الاختلاف المركزي لمدار پلوتو، وهو 0.25، يوحي بأن نپتون هاجر نحو الخارج مسافة تقدر بخمس وحدات فلكية على الأقل. وفي وقت لاحق، عَدَّلتُ هذه القيمة إلى 8 وحدات فلكية، وذلك بعد الاستعانة بالمحاكيات الحاسوبية، كما قَدّرْتُ أن المدة الزمنية التي استغرقتها الهجرة ينبغي أن تكون في حدود بضع عشرات من ملايين السنين، وذلك لتفسير ميل مدار پلوتو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق