هو أبو يحيى مالك بن دينار البصري، من أعلام التابعين، قال الذهبي: «علم العلماء الأبرار، معدود في ثقات التابعين.
ومن أعيان كتبة المصاحف، كان من ذلك بلغته.»
ولد في أيام عبد الله بن عباس، وسمع من أنس بن مالك في بلاده، وحدث عن سعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين، وحدث عنه سعيد بن أبي عروبة وطائفة سواه.
وثقه النسائي وغيره
واستشهد به البخاري. وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة للهجرة
وقال ابن المديني: سنة ثلاثين ومائة للهجرة.
كان أبو يحيى البصري من الذين اشتهروا بزهدهم
وكثرة ورعهم حتى بات مضرب المثل في ذلك، وقدوة السالكين في طريق تحتاج إلى الكثير من جهاد النفس والهوى.
والقدرة على تخطي العبودية لشهوات الدنيا وملاذها.
كان على غاية القناعة والرضا بالقسمة بعدًا عن الشبهات، وورعًا من أن يناله رشاش الإثم عن طريق المال
لذا كان حريصًا على أن يأكل من كسب يده فيكتب المصاحف بالأجر كما أشرنا
ويرضى بالقليل عملاً بسنة الأنبياء
وما رغب به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه
وروي عنه قوله:
قرأت في التوراة:
إن الذي يعمل بيده طوبى لمحياه ومماته.
ولقد رزق الدأب على السير في طاعة مولاه جل وعلا، يبتغي الوصول إلى المعرفة الحقة وهو معرفة الله عز وجل.
قال رحمة الله عليه:
خرج أهل الدنيا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قال: معرفة الله".
أما عن صلته بالقرآن الكريم:
فقد حملت إلينا كتب التراجم الكثير الطيب من ذلك مصداقًا
لقوله تعالى:
"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون".
ومما قاله في ذلك:
"إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة"
ثم قال: "خذوا فيقرأ ويقول: اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه".
وكان من الطبيعي أن يسائل نفسه ويسائل حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبهم، ماذا أثمر من الخير الذي ينعكس على جوارحهم وسلوكهم... إلى أي مدى كان قائدهم إلى الجنة، ومرابع القرب عند الله عز وجل.
حدث جعفر بن سليمان
قال: سمعت مالك بن دينار
يقول: «يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟
فإن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض.
فإن الله ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحسَّ فتكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها من أن تهتز وتخضر وتحسن
فيا حملة القرآن:
ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟
أين أصحاب سورة؟
أين أصحاب سورتين؟
ماذا عملتم فيهما؟»
وكان له قدرة عجيبة في التأثير وإيصال الموعظة إلى القلوب بحاله وبقلمه. قيل: دخل عليه لص فما وجد ما يأخذه
فناداه مالك:
لم تجد شيئاً من الدنيا أفترغب في شيء من الآخرة؟ قال:
نعم.
قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل، ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسئل مالك من ذا؟ فقال: جاء ليسرق فسرقنا.
ما كان يرى من أن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً
فيتفقده صاحبه ويزيده الله.
ويتفقده صاحبه ويزيده الله حتى يجعله بركة على نفسه
ويكون كلامه دواء للخاطئين، يذكر ذلك ثم يقول:
أما رأيتموهم؟ ويرجع إلى نفسه فيقول: بلى
والله لقد رأيناهم: الحسن
وسعيد بن جبير وأشباههما.
الرجل منهم، يحيي الله بكلامه الفئام من الناس.
ومن هذه النظرات ما نراه في
قوله: "يا هؤلاء إن الكلب إذا طرح إليه الذهب والفضة لم يعرفهما، وإذا طرح إليه العظم أكب عليه، كذلك سفهاؤكم لا يعرفون الحق".
والمؤمن على فرحه بفضل الله- حزين القلب على ما يكون من تقصيره، ومخافته من هول يوم القيامة، لذا فإن من خراب القلب –كما يرى ابن دينار- أن يكون خالياً من هذا الحزن. انظر إليه
يقول: "إذا لم يكن في القلب حزن خرب، كما إذا لم يكن في البيت ساكن يخرب".
وهذه الخشية من الله سمة من سمات الصديقين الذين يرون كأن كل وعيد في القرآن، إنما ينصب على رؤوسهم هم وحدهم
وكأن كل قارعة تتهدد العصاة إنما تتهددهم وحدهم، ومن هنا كان تأثرهم بقراءة القرآن خصوصاً آيات العذاب التي تحمل التهديد والتخويف تنفطر لها قلوبهم
وتهتز لها نفوسهم فيناجون الله
ويبكون
ويتخشعون
حتى ثبت عن عمر أنه كان يقرأ بعض الآيات في صلاته فيظل فترة بعدها طريح الفراش.
وفي هذا الباب:
حدث المغيرة بن حبيب ختن مالك بن دينار أنه قال: يموت مالك بن دينار وأنا معه في الدار ولا أدري ما عمله.
قال:
فصليت العشاء الآخرة ثم جئت فلبست قطيفة في أطول ما يكون الليل.
قال:
وجاء مالك فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى آخر الصلاة، فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول:
"إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار" فو الله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني
ثم انتبهت فإذا هو على تلك الحال يقدم رجلاً ويؤخر أخرى يقول: "يارب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرّم شيبة مالك بن دينار على النار" فما زال كذلك حتى طلع الفجر. ومن وصاياه
قوله:
"إن من الناس ناساً إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم
وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم، فكونوا من قراء الرحمن بارك الله فيكم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق