لقد ظلت مدينة خراسان الواسعة بعد الفتح الإسلامي إحدى أهم مراكز الحضارة الإسلامية ومرتعًا خصبًا لفرسان العلم والعرفان والفلسفة والكلام، ولقد كانت لمدينة طوس التي قلَّما تُذكر خراسان إلَّا وطوس ذُكرت قبلها أو بعدها، النصيب الأوفر والحظ الأكبر من هذه الحضارة في تكوين الجيل العظيم من العلماء والفلاسفة وإنجاب أهل العرفان والكلام.
ولقد أصبحت لأجل مناخها الجميل مورد عناية الخلفاء الأمويين والعباسيين، وإحدى أهم مراكزهم العسكرية في خراسان الواسعة، ويتضح ذلك لمتتبع الكتب والمكاتب بسهولةٍ تامَّةٍ كيف ناطت بذكر هذه المدينة العلميَّة أسماء الكثيرين من أهل العلم والفضل والعرفان، وإنَّ كلَّ من عرف الغزالي -وهم ليسوا بقليل؛ بل هم في كلِّ ركنٍ من أركان الدولة الإسلاميَّة- ليعرفنَّ طوس!
لكن أين طوس في خريطة عالمنا الإسلامي المعاصر؟ أين تلك المدينة التي برز منها أمثال الغزالي من المتكلِّمين والأصوليِّين والفقهاء والفلاسفة؟ لا شَكَّ أنَّه لا أثر لوجود مدينةٍ بهذا الاسم لا في الخرائط ولا في الواقع في هذه الأزمان، وإنَّها ذهبت في مجاهل التاريخ شأن كثيرٍ من المدن والبلاد، حيث ذهبت وبقيت منها أسماؤها في الكتب والمكاتب! وفي هذه العجالة نُقدِّم إلى القرَّاء مقتبسات من طيَّات كتب التاريخ والبلدان.
الموقع الجغرافي لمدينة طوس
فمدينة طوس حسب ما أخبر أصحاب البلدان كانت واقعة في خراسان الواسعة، بينها وبين نيسابور نحو عشرة فراسخ، تشتمل على بلدتَين يُقال لإحداهما الطابران وللأخرى نوقان، فُتحت في أيام عثمان بن عفان رضي اللهَ عنه، وبها قبر علي بن موسى الرضا رحمه الله، وبها -أيضًا- قبر هارون الرشيد الخليفة العباسي رحمه الله.
ذكر ياقوت الحموي عن مِسْعَر بن المهلهل في كتابه معجم البلدان قوله عن مدينة طوس: "وطوس أربع مدن: منها اثنتان كبيرتان واثنتان صغيرتان، وبها آثار أبنيةٍ إسلاميَّةٍ جليلة، وبها دار حميد بن قحطبة، ومساحتها ميل في مثله، وفي بعض بساتينها قبر عليِّ بن موسى الرضا وقبر الرشيد، وبينها وبين نيسابور قصرٌ عظيمٌ محكم البنيان، لم أرَ مثله علوَّ جدران وإحكام بنيان، وفي داخله مقاصير تتحيَّر في حسنها الأوهام، وآزاج وأروقة وخزائن وحجر للخلوة، وسألت عن أمره فوجدت أهل البلد مجمعين على أنَّه من بناء بعض التبابعة، وأنَّه كان قصد بلد الصين من اليمن، فلمَّا صار إلى هذا المكان رأى أن يخلف حرمه وكنوزه وذخائره في مكانٍ يسكن إليه ويسير متخفِّفًا، فبنى هذا القصر وأجرى له نهرًا عظيمًا آثاره بيِّنة، وأودعه كنوزه وذخائره وحرمه، ومضى إلى الصين فبلغ ما أراد وانصرف، فحمل بعض ما كان جعله في القصر، وبقيت له فيه بعد أموال وذخائر تخفى أمكنتها وصفات مواضعها مكتوبة معه، فلم يزل على هذه الحال تجتاز به القوافل وتنزله السابلة ولا يعلمون منه شيئًا، حتى استبان ذلك واستخرجه أسعد بن أبي يعفر صاحب كحلان في أيامنا هذه لأنَّ الصفة كانت وقعت إليه فوجَّه قومًا استخرجوها وحملوها إليه إلى اليمن".
عباقرة طوس
وقد خرج من طوس من أئمَّة أهل العلم والفقه ما لا يُحصى، وحسبنا في هذه العجالة ذكر أجلهم وأعظمهم، ويجدر أن نبدأ بأول من أشتهر في الإسلام كحجة للإسلام والمسلمين وهو:
أبو حامد محمد الغزالي الطوسي
إمام أئمَّة الدين من لم تر العيون مثله لسانًا وبيانًا ونطقًا وخاطرًا وذكاءً وطبعًا، تعلَّم فی صباه بطوس من الفقه على الإمام أحمد الراذكاني، ثم قَدِمَ نيسابور مختلفًا إلى درس إمام الحرمين في طائفةٍ من الشبان من طوس، وجدَّ واجتهد حتى تخرَّج عن مدَّةٍ قريبةٍ وبرز الأقران وحفظ القرآن، وصار أنظر أهل زمانه وواحد أقرانه في أيام إمام الحرمين. وكان الطلبة يستفدون منه ويدرسهم ويرشدهم وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف، وبقي كذلك إلى انقضاء أيَّام الإمام فخرج من نيسابور وصار إلى المعسكر، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول وأقبل عليه الصاحب لعلوِّ درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة محط رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الأحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللد ومناظرة الفحول ومناقرة الكبار.
وظهر اسمه في الآفاق وارتفق بذلك اكمل الأرتفاق حتى أدَّت الحال به الى أن رسم للمصير إلى بغداد للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النظامية بها، فصار إليها وأُعجب الكل بتدريسه ومناظرته وما لقي مثل نفسه، ونال بعد إمامة خراسان إمامة العراق.
ثم نظر في علم الأصول وكان قد أحكمها فصنف فيه تصانيف، وجدَّد المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف فحرر فيه -أيضًا- تصانيف، وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كان تغلب حشمته الأكابر والأمراء ودار الخلافة، فانقلب الأمر من وجهٍ آخر، وظهر عليه بعد مطالعةٍ للعلوم الدقيقة وممارسة الكتب المصنفة فيها، وسلك طريق التزهُّد وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة والاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة، فخرج عمَّا كان فيه وقصد بيت الله تعالى وحجَّ، ثم دخل الشام وأقام في تلك الديار قريبًا من عشر سنين يطوف ويزور المشاهد المعظمة.
وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يُسبق إليها مثل إحياء علوم الدين والكتب المختصرة منها مثل الأربعين، وغيرها من الرسائل التي من تأمَّلها عَلِمَ محلَّ الرجل من فنون العلم، وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل وتهذيب المعاش، فانقلب شيطان الرعونة وطلب الرياسة والجاه والتخلُّق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق والفراغ عن الرسوم والتزيينات والتزيي بزي الصالحين، وقصر الأمل ووقف الأوقات على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة وتبغيض الدنيا والاشتغال بها على السالكين والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية والانقياد لكلِّ من يُتوسَّم فيه أو يُشمُّ منه رائحة المعرفة والتيقُّظ لشيءٍ من أنوار المشاهدة.
ولزم منزله بطوس حتى مات بالطابران منها في رابع عشر جمادى الآخرة سنة 505هـ، ودُفِنَ بظاهر الطابران، وكان مولده سنة 455هـ.
تميم بن محمد أبو عبد الرحمن الطوسي
صاحب المسند الحافظ، رحل وسمع بحمص سليمان بن سلمة الخياري، وبمصر محمد بن رُمح وغيره، وبالجبال وخراسان إسحاق بن راهوَيه والحسن بن عيسى الماسرجسي، وبالعراق عبد الرحمن بن واقد الواقدي وأحمد بن حنبل وهدبَة بن خالد وشيبان بن فرُوح. روى عنه جماعة منهم علي بن جمشاد العدل،،وأبو بكر بن إبراهيم بن البدر صاحب الخلافيات، وخلق سواهم. قال الحاكم: تميم بن محمد بن طمغاج أبو عبد الرحمن الطوسي محدث ثقة كثير الحديث والرحلة والتصنيف جمع "المسند الكبير"، ورأيتُه عند جماعة من مشايخنا.
زياد بن أيوب بن زياد الطوسي البغدادي
أحد الحفاظ الثقاة، وهو من طبقة كبار الآخذين عن تبع الأتباع، روى له أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. يُلقَّب بدلويه وَكَانَ يَغْضَبُ منها، وقد لقَّبه أحمد بـشعبة الصغير. وُلِد زياد بن أيوب الطوسي سنة 166هـ، وكان الإمام أحمد يقول: إنَّه شعبة الصغير. سكن بغداد ومات سنة 252هـ.
عبد الله بن هاشم الطوسي الراذكاني
ومن العلماء المعروفين المتقدمين ومن الطبقة العاشرة من كبار الآخذين عن تبع الأتباع، وُلِدَ بطوس وكان أكثر مقامه بنيسابور، روى عن ابن عيينة ويحيى القطان وابن مهدي ووكيع وغيرهم من مشاهير علم الحديث. وروى عنه مسلم وابن خزيمة في صحيحه وصالح بن محمد الأسدي وأحمد بن سلمة وابن صاعد وحاجب بن أركين الفرغاني وغيرهم. قال أحمد بن سيار: كان عبد الله معروفًا بطلب الحديث، وكان أظهر كلام الراوي ثم ترك ذلك. ورحلوا إليه وكتبوا عنه وأظهر أمر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحسين ابن محمد القباني: تُوفِّي في ذي الحجة سنة 155هـ. وقال أبو القاسم الطبري: مات سنة 158هـ. وقال أحمد بن سيار: مات سنة 159هـ.
على بن مسلم بن سعيد الطوسي
لكثرة إقامته في بغداد يُلقَّب بنزيل بغداد، ولكثرة العبادة يُلقَّب بالعابد، روى عن يوسف بن يعقوب بن الماجشون وهشيم وابن المبارك وعباد بن العوام وعباد بن عباد وابن نمير ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي داود الطيالسي وغيرهم، روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي، وروى النسائي في مسند مالك عن زكريا الساجي عنه، وروى عنه -أيضًا- يحيى بن معين وأحمد بن إبراهيم الدورقي وماتا قبله، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم ومعاذ بن المثنى وإبراهيم بن حماد القاضي وأبو القاسم البغوي وأبو بكر بن أبي داود والقاسم بن زكريا المطرز وابن صاعد وابن جرير الطبري والحسين بن إسماعيل المحاملي والحسين بن يحيى بن عياش القطان وأبو الحسين محمد بن هميان البغدادي وهو آخر من حدَّث عنه. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره بن حبان في الثقات. قال عبد الله بن أحمد عنه: وُلِدَ سنة 160هـ. وقال السراج: تُوفِّي في جمادى الآخرة سنة 253هـ.
خراب طوس
ولقد أُبيدت طوس بكاملها بعد هجمات التتار على البلاد الإسلامية، وانتقل الناجون من أهلها من نكبة التتار إلى مدينة مشهد التي كانت في تلك الأيام من ضواحي طوس وبساتينها، وقاموا بعمرانها إلى أن وقعت هذه المدينة كعاصمةٍ للأفشاريِّين الذين سادوا إيران بعد هجوم الثوار الأفغانيين وانقراض الدولة الصفوية الظالمة في شيراز.
وكان الشاه عباس طائفيًّا بشكلٍ جلي، وأشنع ما أراد فعله أنَّه حاول أن يُقنع الإيرانيِّين بالتخلِّي عن الذهاب إلى مكة لأداء فريضة الحج والاكتفاء بزيارة قبر الإمام الثامن علي بن موسى الرضا في مدينة مشهد، لأنَّ الواجب القومي يُحتِّم عدم السفر عبر الأراضي العثمانيَّة ودفع رسم العبور، وكان يحث رجال الدين لتعظيم زيارة الرضا، كما أنَّه تردَّد مرارًا لزيارته ومشى مرَّةً على الأقدام إلى مدينة مشهد، ويُقال: إنَّه مشى أكثر من (1300كم). وإنَّ هذه الخطوة الخرافيَّة من قبل شاه عباس وتلك الوثبة من جانب الأفشاريين في جعل مشهد عاصمة لسلطتهم الظالمة بدل أيِّ مدينةٍ أو مكانٍ آخر، كانت استمرارًا واستكمالًا للدمار الذي شرع فيه التتار، وإزالةً لاسم طوس التي برقت كنجمٍ لامعٍ في صفحات التاريخ الإسلامي المشرق للأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق