عاد الرسولُ محمدٌ راجعاً إلى المدينة المنورة، فلقيته حمنة بنت جحش الأسدية، فلما لقيت الناس نُعي إليها أخوها عبد الله بن جحش الأسدي، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نُعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير العبدري القرشي، فصاحت وولولت، فقال الرسولُ محمدٌ: «إن زوج المرأة منها لبمكان»، لِما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها.
ومر الرسولُ محمدٌ بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وبني ظفر من الأوس، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: «لكن حمزة لا بواكي له»، فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهم أن يتحزمن، ثم يذهبن فيبكين على عم الرسولِ محمدٍ، فلما سمع الرسولُ محمدٌ بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب مسجده يبكين عليه، فقال: «ارجعن يرحمكن الله، فقد آسيتن بأنفسكن»، قال ابن هشام: «ونُهي يومئذ عن النوح». وروي عن أبي عبيدة أن الرسولَ محمداً لما سمع بكاءهن قال: «رحم الله الأنصار، فإن المواساة منهم ما عتمت لقديمة، مروهن فلينصرفن».
وقال كعب بن مالك السلمي الخزرجي برثاء حمزة هذه الأبيات (وقيل هي لعبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي):
بـكـت عيني وحُـقَّ لها بكـاها | وما يُغني البكاءُ ولا العويلُ | |
عـلـى أسد الإله غـداة قالوا | لحمزة: ذاكم الرجـل القتيلُ | |
أصـيـب المسلمون به جـميـعاً | هـنـاك وقد أصيب به الرسولُ | |
أبا يـعـلى لك الأركـان هـدَّت | وأنـت الماجد البر الوصـولُ | |
علـيـك سـلامُ ربك فـي جـنـانٍ | يـخـالـطـهـا نعـيمٌ لا يزولُ | |
ألا يـا هاشـمَ الأخـيار صبـراً | فـكـل فـعـالـكم حسنٌ جمـيلُ | |
رسـول اللـه مصـطـبرٌ كـريـمٌ | بـأمـر اللـه ينطق إذ يقولُ | |
ألا مـن مُـبـلِـغ عـنـي لـؤياً | فـبـعـدَ اليوم دائـلةٌ تدولُ | |
وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا | وقـائعنا بها يُشـفى الغليلُ | |
نـسـيـتـم ضربنا بقلـيب بدر | غداة أتـاكم الموت العجـيلُ | |
غـداةَ ثـوى أبو جهل صـريـعاً | عليه الطـير حائـمة تـجـولُ | |
وعـتـبـة وابنه خرا جـميـعاً | وشـيـبـة غضَّه السيف الصقيلُ | |
ألا يا هـنـدُ لا تُبـدي شمـاتاً | بـحـمـزة إن عـزكـم ذلـيـلُ | |
ألا يا هـنـدُ فابكـي لا تملِّـي | فأنت الوالهُ العبرى الثكولُ |
وقال حسان بن ثابت النجاري الخزرجي يبكي حمزة بن عبد المطلب:[66]
أتعرف الدارَ عفا رسمُها | بعدَك صوب المسبل الهاطلِ | |
بين السراديح فأدمانة | فمدفع الروحاء في حائلِ | |
ساءلتُها عن ذاك فاستعجمت | لم تَدرِ ما مرجوعة السائلِ؟ | |
دع عنك داراً قد عفا رسمها | وابكِ على حمزة ذي النائلِ | |
المالئِ الشيزى إذا أعصفت | غبراء في ذي الشبم الماحلِ | |
والتارك القرن لدى لبدة | يعثر في ذي الخرص الذابلِ | |
واللابس الخيل إذ أجحمت | كالليث في غابته الباسلِ | |
أبيض في الذروة من هاشم | لم يمر دون الحق بالباطلِ | |
مال شهيداً بين أسيافكم | شلت يداً وحشي من قاتلِ | |
أي امرئ غادر في ألة | مطرورة مارنة العاملِ | |
أظلمت الأرض لفقدانه | وأسودَّ نور القمر الناصلِ | |
صلى عليه الله في جنة | عالية مكرمة الداخلِ | |
كنا نرى حمزة حرزاً لنا | في كل أمر نابنا نازلِ | |
وكان في الإسلام ذا تدرأ | يكفيك فقد القاعد الخاذلِ | |
لا تفرحي يا هندُ واستحلبي | دمعاً وأذري عبرة الثاكلِ | |
وابكي على عتبة إذ قطه | بالسيف تحت الرهج الجائلِ | |
إذا خرَّ في مشيخة منكم | من كل عاتٍ قلته جاهلِ | |
أرداهم حمزة في أسرةٍ | يمشون تحت الحلق الفاضلِ | |
غداة جبريل وزير له | نعم وزير الفارس الحاملِ |
وقد رُوي عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام، وكان صائماً فقال: «قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، فكُفن في بردته، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه»، وأراه قال: «وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط»، أو قال: «أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتُنا عجلت لنا»، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق