الأربعاء، 28 مارس 2018

ليلى العفيفة(2)

بعد الحرب أرسل عمرو بن ذي صهبان خطيب ليلى إلى لَكيز والدها يستنجزه وعده في أمر ابنته. فلم ير بداً من إجابة دعواه، إلا أن خبر حسن جمال ليلى وأدبها وأخلاقها الحميدة وشعرها وعفتها قد ذاع في الامبراطورية الساسانية وبلغ خبرها عند أحد أمراء فارس وكان ابناً لكسرى ملك العجم فقال لحاشيته : ما عسى أن نبلغ منها، والمرأة العربية تفضل الموت على أن يغشاها أعجمي، فقالوا له : نرغبها بالمال ومحاسن الطعام والمشارب والملابس.

وفي أحد الأيام نزل لكيز وبعض من معه من ربيعة نواحي من بلاد فارس فكمن الأمير لهم في الطريق وأرسل فرساناً أسروا ليلى وسبوها في طريقها وحملوها إلى فارس مُرغَمة. ثم حاول الزواج بها وراح يعرض عليها عبثاً كل ما يُشتهى ويُستطاب وهددها وتوعدها وعرض عليها جميع المشتهيات والمرغبات وخوفها بجميع العقوبات ، وعاملها بأقسى أنواع التعذيب ليرى وجهها، ولكنها أبت ذلك وامتنعت عليه، وتعففت وتمنعت، فلم يزدها الأمر إلا رفضاً وإصراراً وخيرته بين أن يقتلها أو يعيدها إلى قومها، ولما يئس منها أسكنها في موضع، وأجرى عليها الرزق واكتفى منها برؤية قوامها بين حين وحين الظاهر تحت ملابسها,ولما ضيق عليها العجم وضربوها لتقنع بمراد ملكهم ,جعلت تستصرخ بالبراق وبإخوتها وتهدد بني أنمار وإياد وكانوا
وافقوا العجم على سبيها :-
لَيتَ للِبَرّاقِ عَيناً فَتَرى ما أُقاسي مِن بَلاءٍ وَعَنا
يا وائِلًا ويا عُقَيلاً وَيلَكُم يا جُنَيداً ساعِدوني بِالبُكا
عُذِّبَت أُختُكُمُ يا وَيلَكُم بِعذابِ النُكرِ صُبحاً وَمَسا
يَكذِبُ الأَعجَمُ ما يَقرُبُني وَمَعي بَعضُ حِساساتِ الحَيا
قَيِّدوني غَلّلِوني وَاِفعَلوا كُلَّ ما شِئتُم جَميعاً مِن بَلا
فَأَنا كارِهَةٌ بُغيَتُكُم وَمَريرُ المَوتِ عِندي قَد حَلا
أَتَدُلّونَ عَلَينا فارِساً يا بَني أَنمارَ يا أَهلَ الخَنا
يا إِيادُ خَسِرَت صَفقَتُكُم وَرَمى المَنظَرَ من بَرد العَمى
يا بَني الأَعماصِ إِمّا تَقطَعوا لِبَني عَدنانَ أَسبابَ الرَجا
فَاِصطِباراً وَعَزاءً حَسَناً كُلُّ نَصرٍ بَعدَ ضُرٍّ يُرتَجى
قُل لِعَدنانٍ فُديتُم شَمِّروا لِبَني الأَعجامِ تَشميرَ الوَحى
وَاِعقِدوا الراياتِ في أَقطارِها وَاشهَروا البيضَ وَسيروا في الضُحى
يا بَني تَغلِبَ سيروا وَاِنصُروا وَذَروا الغَفلَةَ عَنكُم وَالكَرى
وَاِحذَروا العارَ عَلى أَعقابِكُم وَعَلَيكُم ما بِقيتُم في الوَرى

سمع راعي غنم عربي القصيدة فأسرع الخطى يريد ديار أهلها، حتى بلغ البراق وأنشده على عجل صرخة ليلى وما إن أكمل الراعي شعرها حتى وضع البراق رجله في الركاب واعتلى صهوة جواده وبلغ بني ربيعة استنجاد فتاتهم استفزتهم الحمية وخنقتهم العبرة، فحشد البراق بن روحان الفرسان وسار إلى بلاد العجم. 
فانشد في قومه يحثهم لقتال الفرس:
لم يبق يا ويحكم إلا تلاقيها ومسعر الحرب لاقيها وآتيها
لا تطمعوا بعدها في قومكم مضر من بعد هذا فولوها مواليها
فمن بقي منكم في هذه فله فخر الحياة وإن طالت لياليها
ومن يمت مات معذوراً وكان له حسن الثناء مقيماً إذ ثوى فيها
إن تتركوا وائلاً للحرب يا مضر فسوف يلقاكم ما كان لاقيها
أبلغ بني الفرس عنا حين تبلغهم وحي كهلان أن الجند عافيها
لابد قومي أن ترقى وقد جهدت صعب المراقي بما تأبى مراقيها
أما إياد فقد جاءت بها بدعاً في ما جنى البعض إذ ما البعض راضيها

وقال أيضاً:
لا فرجن اليوم كـل الـغـمـم من سبيهم في الليل بيض الحرم
صبراً إلى ما ينظرون مقدمـي إني أنا البرَّاق فـوق الأدهـم
لارجعن اليوم ذات الـمـبـسـم بنت لكيز الـوائلـي الأرقـم

وأنشد كذلك:
أمن دون ليلى عوقتنا الـعـوائق جنود وقفر ترتعيه النـقـانـق
وعجم وأعراب وأرض سحـيقة وحصن ودور دونها ومغـالـق
وغربها عني لكيز بـجـهـلـه ولما يعقه عنـد ذلـك عـائق
وقلدني مـا لا أطـيق إذا ونـت بنو مضر الحمر الكرام الشقائق
وإني لأرجوهم ولـسـت بـائس وإني بهم يا قوم لا شك واثـق
فمن مبلغ برد الأيادي وقـومـه بأني بثاري لا محـالة لاحـق
واجتمعت لديه قبائل ربيعة بن نزار وأحلافهم لحرب الفرس ولم يزل يكد ويسعى حيناً بالقتال وآخر بالحيلة حتى انتصر عليهم، وخلص ليلى من يد مغتصبيها، واستنقذها منهم وأعادها إلى ديار بني ربيعة، فأثنى عليه قومه ثناء جميلاً واستحق أن يفوز بها ليتكلل حبهما العفيف بالزواج. لكنه فجع بقتل أخيه غرسان في ارض الفرس فقال فيه:
بكيت لغرسان وحق لـنـاظـري بكاء قتيل الفرس إذ كـان نـائيا
بكيت على واري الزناد فتى الوغى السريع إلى الهيجاء إن كان عاديا
إذا ما علا نهـداً وعـرض ذابـلاً وقحم بـكـرياً وهـز يمـانـيا
فأصبح مغتـالاً بـأرض قـبـيحة عليها فتى كالسيف فات المجاريا
وقد أصبح البراق في دار غـربة وفارق إخوانـاً لـه ومـوالـيا
حليف نوى طاوي حشاً سافح دمـاً يرجع عبرات يهجن البـواكـيا 

أشعارها
بعدما أعاد البراق ليلى وتزوجها تولى رئاسة قومه بني تغلب زمناً طويلاً، وصارت قبائل ربيعة بحسن تدبيره أوسع العرب خيراً وتوفي نحو عام 479 م وقد قالت مرثية فيه وفي أخوه غرسان:

قَد كانَ بي ما كَفي مِن حُزنِ غَرسانِ وَالآنَ قَد زادَ في هَمّي وَأَحزاني
ما حالُ بَرّاقَ مِن بَعدي وَمَعشَرِنا وَوالِدَيَّ وَأَعمامي وَإِخواني
قَد حالَ دوني يا بَرّاق مُجتَهِداً مِنَ النَوائِبِ جُهدٌ لَيسَ بِالفاني
كَيفَ الدُخولُ وَكَيفَ الوَصلُ وا أَسَفا هَيهات ما خِلتُ هَذا وَقتَ إِمكانِ
لَمّا ذَكَرتُ غَريباً زادَ بي كَمَدي حَتّى هَمَمتُ مِنَ البَلوى بِإِعلانِ
تَرَبَّعَ الشَوقُ في قَلبي وَذُبتُ كَما ذابَ الرَصاصُ إِذا أُصلي بِنيرانِ
فَلَو تَراني وَأَشواقي تُقَلِّبُني عَجِبتُ بَرّاقُ مِن صَبري وَكِتماني
لا دَرَّ دَرُّ كُلَيبٍ يَومَ راحَ وَلا أَبي لُكَيزٍ وَلا خَيلي وَفُرساني
عَنِ اِبنِ رَوحانَ راحَت وائِلٌ كَئَباً عَن حامِلٍ كُلَّ أَثقالٍ وَأَوزانِ
وَقَد تَزاوَرَ عَن عِلمِ كُلَيبُهُمُ وَقَد كَبا الزَندُ مِن زَيدِ بنِ رَوحانِ
وَأَسلَموا المالَ وَالأَهلينَ وَاِغتَنَموا أَرواحَهُم فَوقَ قُبٍّ شَخصَ أَعيانِ
حَتّى تَلاقاهُمُ البَرّاقُ سَيِّدُهُم أَخو السَرايا وَكَشفِ القَسطَلِ الباني
يا عَينِ فَاِبكي وَجودي بِالدُموعِ وَلا تَمَلَّ يا قَلبُ أَن تُبلى بِأَشجانِ
فَذِكرُ بَرّاقَ مَولى الحَيِّ مِن أَسَدٍ أَنسى حَياتي بِلا شَكٍّ وَأَنساني
فَتى رَبيعَةَ طَوّافٌ أَماكِنَها وَفارِسُ الخَيلِ في رَوعٍ وَمَيدانِ
وعاتبتها ولامتها الشاعرة أم الأغر بنت ربيعة التغلبية أخت كليب بن ربيعة و الزير سالم على جزعها لموت البرَّاق فردت عليها:

أم الأغر دعي ملامك واسمعي قولاً يقيناً لست عنه بمعزل
براق سيدنا وفارس خيلنا وهو المطاعن في مضيق الجحفلي
وعماد هذا الحي في مكروهه ومؤمل يرجوه كل مؤمل
ومن قصائدها:
تزود بنا زاداً فليس براجع إلينا وصال بعد هذا التقاطع
وكفكف بأطراف الوداع تمتعاً جفونك من فيض الدموع الهوامع
ألا فاجزني صاعاً بصاع كما ترى تصوب عيني حسرة بالمدامع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق