لغة الزجل
=======
كانت الأندلس بلادا متعددة الثقافات، ونتيجة لهذا التعدد تكونت لغات أندلسية كريولية، مختلطة من اللغات الرومانية والبربرية والعربية، والتي بدورها تتفرع إلى لهجات عديدة، ومستويات متفاوتة، فكانت العاميات المتكونة "بعيدة بعدا شديدا عن اللغة العربية الفصحى"
نشأت من هذه العاميات فنون شعبية فلكلورية، منها الفنون اللغوية، مثل الغناء للأطفال، والغناء للأعراس، وظاهرة التروبادو أي الشاعر الجوال أو الشاعر المنشد الذي يلقي أناشيده العامية في القصور، وأفنية الكنائس، والأسواق، والساحات الشوارع وغيرها من الفلكلور.
و أحد الآراء يذهب إلى أن الزجل كان من هذه الفنون الشعبية في مرحلته الأولى
وأنه ابتدع ليرضي النهم الفني للعامة من سكان الأندلس
ويبدو أن الزجل بعد مرحلة الأغنية الشعبية دخل في مرحلة من التفصح بعض الشيء
وأخذ نظامه يتشبهون بالموشحين، حتى كاد يمحى الفرق بين الزجل والموشح، ولولا ذلك ما انتشرت أزجال الأندلسيين في العراق وبلاد الشام، واستعذبها المشارقة ونسجوا على منوالها
حتى قال ابن سعيد: "ورأيت أزجاله - ابن قزمان – مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"
بل وإننا اليوم، وباستخدام لغتنا العربية المعيارية، نجد أننا نفهم الكثير من الزجل الأندلسي، وهذا ما أدركه الأولون عندما أسموا الزجل فنا غير معرب، ويقصدون بهذا الاسم: أشكال النظم العربية التي ظهرت في العصر الأدبي الوسيط، والتي لم يلتزم ناظموها باللغة الفصحى المعيارية، وخاصة بالنسبة لقواعد الإعراب، واعتماد ذلك التصنيف على هذا الفارق اللغوي يدل على إدراك نافذ، فالواقع أن هذه الأشكال غير المعربة ظلت على صلة وثيقة بالأشكال المعربة، وتتبنى تقاليدها الفنية، رغم فارق مستوى الأداء اللغوي، بل إن لغة الزجل، وإن كانت غير معربة، كانت تقترب من الفصحى بقدر كبير، فلغة المنظومات الزجلية كانت لهجة دارجة خاصة بالزجالين، بوصفهم أفرادا يلتحقون بالدوائر الأدبية السائدة، وتتحد أطرهم المرجعية في داخل نوع الثقافة العربية التي تقرها هذه الدوائر
وقد ظل هذا الفارق في مستوى الأداء اللغوي أحد مقومات تمايز الزجل عن الموشح، كما كان في الوقت نفسه أحد مقوّمات تمايز الزجل عن أشكال الشعر الشعبي (الفولكلوري) وعن حركة شعر العامية واختلافه معها
فقد "كتب بلغة ليست عامية بحتة بل هي مهذبة وإن كانت غير معربة"
ويبدوا أن خشية الزجالة من غلبة التعريب على الزجل، وجعله فنا خاضعا لـقواعد اللغة العربية المعيارية، جعلهم يشددون على اشتراط اللحن في الزجل، حتى قال ابن قزمان: "الإعراب في الزجل لحن"، فالزَّجل لون من الكلام لا يحتمل الإعراب عند الزجالة فهو ملحون أبدا، ولا يجيزون فيه أن يختلط اللحن والإعراب فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، وقد قرر هذه القاعدة واضع هذا الفن أبو بكر بن قزمان في مقدمة ديوانه لما قال:
وجردت فني من الإعـراب كما يجرد السيف من القراب
فمن دخل علي من هذا الباب فقد أخـطـأ ومـا أصـاب
ومن أعرب في الزجل فقد أساء وسموا ذلك منه تزنيما، وعدوه عيبا فاحشا
وقال صفي الدين الحلي: "وهذه الفنون إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهى السهل الممتنع، والأدنى المرتفع"
، وقال أيضا: " فإذا أحكم عليهم – الزجالة - فيها لفظة معربة غالطوا فيها بالإدماج في اللفظ والحيلة في الخط كالتنوين فإنهم يجعلون كل منون منصوباً أبدا، فيكتبون اللفظة بمفردها مجردة من التنوين، وبعدها ألفا ونونا، كأن يكتبوا (رجلا) على هذه الصورة (رجلن)"
ويجب أن نشير أيضا إلى أن الزجالة لم يولوا اهتماما لأعجمية أهل الأندلس، فلا نجد من اللهجة الرومانسية إلا بعض الألفاظ، متناثرة في أزجال ابن قزمان، وما جاء على لسان العجم والأعجميات في أزجال الحوار، ولم نجد خرجة أعجمية في الزجل كما هو الشأن في بعض الموشحات، لكون لغة الزجل غير معربة، فيلجأ الزجال إلى الفصيح بدلا من الألفاظ الأعجمية، أو إلى التحايل، كأن يمهد للخرجة بألفاظ تدل على أن الزجل قد أوشك على النهاية
لقد استخدم ابن قزمان في أزجاله بعض المقطوعات بالأعجمية، ومن المؤكد أنه ورث هذه الطريقة عن الوشاحين الذين كانوا يستعملون الأعجمية في خرجات موشحاتهم، فمن ذلك قوله في الخرجة من زجل له:
نمضي إن شاء الله من سرور لسرور والسعاد بشاشتْ إذ مطور
وعدوك يذاق فشوال طــــتلـور لعن الله من لا يقول نعم
لقد استخدم ابن قزمان في هذه المقطوعة لفظة "إذ ماطور"، وهي عجمية بمعنى "للعاشق"، كما استخدم أيضا – وهو يتوعد الفقيه بعد شهر رمضان – لفظة "طلور" وهي أعجمية بمعنى الألم
أما المستشرقون فقد أولوا اهتماما بالغا بالأزجال الأندلسية، وبالأخص ديوان ابن قزمان، وزعموا أن أزجاله تمثل ذروة الشعر العربي وواقع المجتمع الإسلامي، إذ ركزوا بحوثهم على الألفاظ الأعجمية التي استخدمها ابن قزمان في أزجاله، وقد زعموا أن الزجال الأندلسي نظم بعض الخرجات الزجلية باللغة الأعجمية
لكن خرجات الزجل لم تكتب بالرومانسية كما يذهب هؤلاء المستشرقون، وإنما وجدت بعض الألفاظ في ثنايا أزجال ابن قزمان لا علاقة لها بالوزن أو الموسيقى أو القافية، وهي ألفاظ تعوّد الأندلسيون على استخدامها في حديثهم اليومي مع المسيحيين، ولم نجد ألفاظا أعجمية عند الزجالة الذين تقدموا ابن قزمان أو عاصروه أو خلفوه، فيما وصل إلينا من أزجالهم
=======
كانت الأندلس بلادا متعددة الثقافات، ونتيجة لهذا التعدد تكونت لغات أندلسية كريولية، مختلطة من اللغات الرومانية والبربرية والعربية، والتي بدورها تتفرع إلى لهجات عديدة، ومستويات متفاوتة، فكانت العاميات المتكونة "بعيدة بعدا شديدا عن اللغة العربية الفصحى"
نشأت من هذه العاميات فنون شعبية فلكلورية، منها الفنون اللغوية، مثل الغناء للأطفال، والغناء للأعراس، وظاهرة التروبادو أي الشاعر الجوال أو الشاعر المنشد الذي يلقي أناشيده العامية في القصور، وأفنية الكنائس، والأسواق، والساحات الشوارع وغيرها من الفلكلور.
و أحد الآراء يذهب إلى أن الزجل كان من هذه الفنون الشعبية في مرحلته الأولى
وأنه ابتدع ليرضي النهم الفني للعامة من سكان الأندلس
ويبدو أن الزجل بعد مرحلة الأغنية الشعبية دخل في مرحلة من التفصح بعض الشيء
وأخذ نظامه يتشبهون بالموشحين، حتى كاد يمحى الفرق بين الزجل والموشح، ولولا ذلك ما انتشرت أزجال الأندلسيين في العراق وبلاد الشام، واستعذبها المشارقة ونسجوا على منوالها
حتى قال ابن سعيد: "ورأيت أزجاله - ابن قزمان – مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب"
بل وإننا اليوم، وباستخدام لغتنا العربية المعيارية، نجد أننا نفهم الكثير من الزجل الأندلسي، وهذا ما أدركه الأولون عندما أسموا الزجل فنا غير معرب، ويقصدون بهذا الاسم: أشكال النظم العربية التي ظهرت في العصر الأدبي الوسيط، والتي لم يلتزم ناظموها باللغة الفصحى المعيارية، وخاصة بالنسبة لقواعد الإعراب، واعتماد ذلك التصنيف على هذا الفارق اللغوي يدل على إدراك نافذ، فالواقع أن هذه الأشكال غير المعربة ظلت على صلة وثيقة بالأشكال المعربة، وتتبنى تقاليدها الفنية، رغم فارق مستوى الأداء اللغوي، بل إن لغة الزجل، وإن كانت غير معربة، كانت تقترب من الفصحى بقدر كبير، فلغة المنظومات الزجلية كانت لهجة دارجة خاصة بالزجالين، بوصفهم أفرادا يلتحقون بالدوائر الأدبية السائدة، وتتحد أطرهم المرجعية في داخل نوع الثقافة العربية التي تقرها هذه الدوائر
وقد ظل هذا الفارق في مستوى الأداء اللغوي أحد مقومات تمايز الزجل عن الموشح، كما كان في الوقت نفسه أحد مقوّمات تمايز الزجل عن أشكال الشعر الشعبي (الفولكلوري) وعن حركة شعر العامية واختلافه معها
فقد "كتب بلغة ليست عامية بحتة بل هي مهذبة وإن كانت غير معربة"
ويبدوا أن خشية الزجالة من غلبة التعريب على الزجل، وجعله فنا خاضعا لـقواعد اللغة العربية المعيارية، جعلهم يشددون على اشتراط اللحن في الزجل، حتى قال ابن قزمان: "الإعراب في الزجل لحن"، فالزَّجل لون من الكلام لا يحتمل الإعراب عند الزجالة فهو ملحون أبدا، ولا يجيزون فيه أن يختلط اللحن والإعراب فتكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، وقد قرر هذه القاعدة واضع هذا الفن أبو بكر بن قزمان في مقدمة ديوانه لما قال:
وجردت فني من الإعـراب كما يجرد السيف من القراب
فمن دخل علي من هذا الباب فقد أخـطـأ ومـا أصـاب
ومن أعرب في الزجل فقد أساء وسموا ذلك منه تزنيما، وعدوه عيبا فاحشا
وقال صفي الدين الحلي: "وهذه الفنون إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعتها إذا أودعت من النحو صناعة، فهى السهل الممتنع، والأدنى المرتفع"
، وقال أيضا: " فإذا أحكم عليهم – الزجالة - فيها لفظة معربة غالطوا فيها بالإدماج في اللفظ والحيلة في الخط كالتنوين فإنهم يجعلون كل منون منصوباً أبدا، فيكتبون اللفظة بمفردها مجردة من التنوين، وبعدها ألفا ونونا، كأن يكتبوا (رجلا) على هذه الصورة (رجلن)"
ويجب أن نشير أيضا إلى أن الزجالة لم يولوا اهتماما لأعجمية أهل الأندلس، فلا نجد من اللهجة الرومانسية إلا بعض الألفاظ، متناثرة في أزجال ابن قزمان، وما جاء على لسان العجم والأعجميات في أزجال الحوار، ولم نجد خرجة أعجمية في الزجل كما هو الشأن في بعض الموشحات، لكون لغة الزجل غير معربة، فيلجأ الزجال إلى الفصيح بدلا من الألفاظ الأعجمية، أو إلى التحايل، كأن يمهد للخرجة بألفاظ تدل على أن الزجل قد أوشك على النهاية
لقد استخدم ابن قزمان في أزجاله بعض المقطوعات بالأعجمية، ومن المؤكد أنه ورث هذه الطريقة عن الوشاحين الذين كانوا يستعملون الأعجمية في خرجات موشحاتهم، فمن ذلك قوله في الخرجة من زجل له:
نمضي إن شاء الله من سرور لسرور والسعاد بشاشتْ إذ مطور
وعدوك يذاق فشوال طــــتلـور لعن الله من لا يقول نعم
لقد استخدم ابن قزمان في هذه المقطوعة لفظة "إذ ماطور"، وهي عجمية بمعنى "للعاشق"، كما استخدم أيضا – وهو يتوعد الفقيه بعد شهر رمضان – لفظة "طلور" وهي أعجمية بمعنى الألم
أما المستشرقون فقد أولوا اهتماما بالغا بالأزجال الأندلسية، وبالأخص ديوان ابن قزمان، وزعموا أن أزجاله تمثل ذروة الشعر العربي وواقع المجتمع الإسلامي، إذ ركزوا بحوثهم على الألفاظ الأعجمية التي استخدمها ابن قزمان في أزجاله، وقد زعموا أن الزجال الأندلسي نظم بعض الخرجات الزجلية باللغة الأعجمية
لكن خرجات الزجل لم تكتب بالرومانسية كما يذهب هؤلاء المستشرقون، وإنما وجدت بعض الألفاظ في ثنايا أزجال ابن قزمان لا علاقة لها بالوزن أو الموسيقى أو القافية، وهي ألفاظ تعوّد الأندلسيون على استخدامها في حديثهم اليومي مع المسيحيين، ولم نجد ألفاظا أعجمية عند الزجالة الذين تقدموا ابن قزمان أو عاصروه أو خلفوه، فيما وصل إلينا من أزجالهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق