الخميس، 29 مارس 2018

نشأة الزجل


هناك قصة مشهورة حول نشأة الزجل يتداولها كثير ممن أرخ لهذا الفن، مضمون القصة أن أبو بكر بن قزمان (ت555هـ) عشق غلاما مليحا يدرس في الكتاب، فعاقبه الشيخ، لينشد ابن قزمان:
الملاح ولاد أمارة والوحاش ولاد نصاره
وابن قزمان جا يغفر ما قبل له الشيخ غفارة
فقال له الشيخ :"هجوتنا يابن قزمان بكلام مزجول" أي كلام مقطع.
ربما تدلنا هذه القصة على الدور الكبير الذي لعبه ابن قزمان في تدوين الزجل، وتخليده،
 حتى إن تقي الدين الحموي (ت737هـ) مؤلف كتاب (بلوغ الأمل في فن الزجل)، يقول:"ولهذا -
عدم تمكنه من منافسة أدباء الفصحى- عدل قبلة المغرب، وهو الإمام أبو بكر ابن قزمان تغمده الله برحمته، واخترع فنا سماه الزجل،
 لم يسبق إليه، وجعل إعرابه لحنه، فامتدت إليه الأيادي، وعقدت الخناصر عليه"، ولكننا لا نستطيع القبول بهذا لعدد من أسباب، 
منها أن فكرة تأسيس فن شفهي، يقوم به شخص واحد، أصبحت فكرة غير مقبولة، فقد أظهرت الدراسات الحديثة، أن أمثال هذه القصص،
 هي تعابير أسطورية، يستخدمها الأولون بكثرة ويصدقونها، ولا يمكن أن تؤخذ على محمل الحقيقة الكاملة، وإذا عدنا للقصة السابقة، نجد أن ابن قزمان ذاته في مقدمة ديوانه يتحدث عن زجالين سابقين، كما يتحدث عن الزجل وإضافاته عليه، مما يدل على
 وجود الزجل قبل ابن قزمان، ومما قاله في هذا السياق: "ولما اتسع في طريق الزجل باعي، وانقادت لغريبه طباعي، وصارت الأيمة فيه حولي واتباعي، وحصلت منه على مقدار لم يحصله زجال، وقويت فيه قوة نقلتها الرجال عن الرجال، عندما أثبت أصوله، وبينت منه فصوله، وصعبت على الأغلق الطبع وصوله، وصفيته عن العقد التي تشينه، وسهلته حتى لان ملمسه، ورق خشينه، وعديته من الإعراب، 
وعريته من التخالين والاصطلاحات، تجريد السيف من القراب، وجعلته قريبا بعيدا، وبليدا غريبا، وصعبا هينا، وغامضا بينا،..."
 وعلى هذا المنوال يستمر ابن قزمان في وصف تطويره لفن الزجل،
 وبغض النظر عما يعتقد أنه مبالغات صدرت من ابن قزمان، في وصفه السابق، والتي قد يفهم منها البعض أنه رائد الزجل، إلا أننا لا 
نجد فيها إلا فخره ببلاغة أزجاله، ربما باستثناء قوله "أثبت أصوله، وبينت منه فصوله"، بل إن تقي الدين الحموي مؤلف كتاب (بلوغ الأمل في فن الزجل) يورد زجلا لابن قزمان، أعرب فيه بعض الألفاظ رغم قوله "وعديته من الإعراب"، وهو قوله:
شرب الخمر المحتسب وزنا قاضي المسلمين أت هو السبب
سيدي ليه جعلت ذا محتسب
ومحكم في أمر أهل الأدب
وهو زاني زنيم كثير الزنا
حيث فتح (الياء) في الاسم المنقوص (قاضي)، وفتح (النون) في (المسلمين)، وهذه من علائم الإعراب، وبدون تحريكها يخطئ الوزن، وغيرها كثير مما أعرب فيه ابن قزمان، وهذا ما يقلل مصداقيته في مدحه لزجله في خطبة ديوانه.
وتطرق ابن قزمان في مقدمة ديوانه إلى الزجالين السابقين، 
وقال فيهم: "ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين، ويعظمون أولئك المتقدمون، يجعلونهم في السماك الأعزل، ويرون لهم المرتبة العليا والمقدار الأجزل، وهم لا يعرفون الطريق، ويذرون القبلة ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعاني باردة، وأغراض شاردة"
 وقد ذكر ابن قزمان أحد هؤلاء السابقين بالاسم وهو ابن راشد، وقيل إن اسمه مخلف بن راشد، والغريب أن تقي الدين الحموي أعاد طرح السؤال حول نشأة الزجل بعد خمسين صفحة من الإجابة للمرة الأولى، وفي ذات الكتاب، حينما حسم الجواب بأن مخترع الزجل ابن قزمان، والآن يقول في (بلوغ الأمل) صفحة101: "واختلفوا فيمن اخترع الزجل،...، وقيل: بل مخلف بن راشد، وكان هو إمام الزجل قبل ابن قزمان، وكان ينظم الزجل بالقوي من الكلام، فلما ظهر ابن قزمان ونظم السهل الرقيق مال الناس إليه، وصار هو الإمام بعده، وكتب إليه ينكت عليه في استعمال يابس الكلام القوي:
زجلك يابن راشد قوي متين
وإن كان هو بالقوة فالحمالين
يريد: إذا كان النظم بالقوة فالحمالون أولى به من أهل الأدب"، 
وهكذا نجد ابن قزمان يذكر زجالين سبقوه، عظمهم الناس، فهم مشاهير وأعلام، إلا أن رأي ابن قزمان مخالف لهم لأسباب نقدية بحته، 
فرأي ابن قزمان لا يقدم حقائق ومعلومات، بل هو يمثل وجهة نظره النقدية لا أكثر، بينما الحقائق والمعلومات التي يقدمها
 هي أن الزجالين السابقين عليه، مشاهير وعرفوا بتقديم فن بليغ ورفيع.
وربما يكون مرجع ارتباط فن الزجل بشخصية ابن قزمان، 
يعود إلى تدوين ابن قزمان لديوانه، ومن غير المعتاد التدوين باللهجة العامية، فلا يدون إلا باللفظ الصحيح المعرب، حتى إن أحد شيوخ مصر، واسمه برهان الدين المعمار، كان يحب نظم الشعر، ونكت الأدب، إلا أنه ليس من فرسان العربية، فأنشأ شعرا ملحونا، 
"فاستحلوا على زايد النيل زايده، ونقل عن الشيخ جمال الدين ابن نباتة المصري 
أنه قال: قطعنا المعمار بمقاطيعه"،
 مع الأخذ في الاعتبار أن ابن قزمان كتب مقدمة ديوانه العامي باللغة العربية الفصحى، فنحن إذن أمام شاعر من طراز خاص، فقد جمع قصائده بنفسه، أو جمعت في حياته على أقل تقدير، كما أنه كتب مقدمة لديوانه، 
وهذا نادر في تاريخ الشعر العربي، وديوان ابن قزمان هو ديوان الزجل الوحيد الذي وصل إلينا كاملا، فلا يوجد ديوان زجل لزجال غيره، وما وصلنا من أزجال الزجالين الآخرين مرويات تناثرت في المؤلفات التي كتبت عن الزجل، وهي قليلة، وربما ورد بعضها 
في مؤلفات أدبية أو تاريخية، كالأزجال التي وردت في (مقدمة ابن خلدون) والأزجال التي وردت في كتاب لسان الدين بن الخطيب المعنون بـ(الإحاطة في أخبار غرناطة).
وهكذا فإن الآثار الزجلية الأندلسية، شحيحة للغاية، قياسا على ما يجدر بفن ما أن يخلفه، 
وغالب الأزجال الموجودة حاليا هي أزجال ابن قزمان، فنجد زجالا واحد يعدل بأزجاله المدونة جميع أزجال الزجالين الآخرين من الناحية الكمية، يلاحظ هذا عند النظر لديوان ابن قزمان الضخم، ونظرا لهذه الحالة الشاذة، فإن النقاد والدارسين المتأخرىن لفن الزجل، 
والمعتمدين على الكتب والمذكرات المدونة، لم يكن أمامهم سوى ربط فن الزجل بابن قزمان، واستصعاب أي دراسة لفن الزجل بمعزل عنه.
وقد نقل المقري في كتاب (نفح الطيب) عن أهل الأندلس قولهم: "ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ومدغليس بمنزلة أبي تمام"
 ولا شك أن المتنبي بعيد عن نشأة الشعر، وإنما قد يشار إلى أنه أوصل الشعر إلى ذروته، وهذا أيضا ما دلت عليه الإشارات نحو ابن قزمان، منها قول ابن خلدون: "وأول من أبدع هذه الطريقة الزجلية أبو بكر ابن قزمان، 
وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، ولا انسكبت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه"
 وقد يكون ابن خلدون قصد بقوله "أبدع" أي جاء بالزجل البديع، وليس أنه أنشأ أو خلق،
 لأنه في الجملة التالية مباشرة قال:"وإن كانت قيلت قبله بالأندلس"،
 إلا أن كثيرا من المؤرخين السابقين أو المعاصرين يصفون ابن قزمان بأنه مخترع الزجل، كقولهم: "الذي اتفق عليه الجمهور أن أول من تناشد به ابن قزمان"
 وقد يكون سبب اقتران ابن قزمان بنشأة الزجل عندهم، هو كما سلف، 
قلة المدونات الزجلية الأخرى، فيلجئون بالتالي إلى تكرار الأفكار والمقولات، لعدم وجود مواد يمكن لأجلها استكثار الباحثين، واستخراج الجديد منها. ولا نستطيع تحديد وقت نشأة فن الزجل بدقة، إلا أن القرنين الثالث والرابع الهجريين، من أقرب الاحتمالات لنشأته،
 ويسند اختيار هذا التوقيت عادة إلى حدث وقع فيه، وهو: سيطرة المرابطين على الأندلس فبروز اللهجة الأندلسية.
دخل المرابطون الأندلس عام479هـ، بعد انتصارهم في معركة الزلاقة، التي شنوها لنجدة ملوك الطوائف من الهجمات المسيحية، والمرابطون من شعوب البربر الإفريقية، التي لم تستعرب، ورغم أنهم من المسلمين المتحمسين، إلا أن حكمهم للأندلس ربما غير شيئا من وضعه اللغوي، فعلى مستوى السلطة كان العرب حكام الأندلس منذ سيطرة المسلمين عليه، وما جاء بعده من انبعاث علمي وثقافي وأدبي، كان باللغة العربية، نظرا لرعاية الحكام العرب أو حتى المستعربين
 وعلى المستوى الشعبي كان هناك عدد من اللغات المتباينة، هذا الاختلاف في الألسن مع وجود التواصل، سيتطور طبيعيا إلى لغة أو لهجة جديدة مختلفة، تكون قد اختمرت بعد ثلاثة قرون تقريبا، ووصفها ابن خلدون بالحضرية والمستعجمة
 لتأتي دولة المرابطين، فتسقط الحكم العربي، تاركة متنفسا لظهور آداب 
وفنون هذه اللهجة العامية، التي كانت عند العامة، ومنها الزجل، ولكنها مجهولة عندنا بسبب نمط التأريخ الذي يركز على النخب،
 فقد ورد مثلا، نص في كتاب معنون بـ(جميع نواميس الكنيسة والقانون المقدس) منسوخ سنة 437هـ-1046م جاء فيه: "لا يجوز للقلارقيين
 أن يحضروا الملاهي والزجل في العرائس والمشارب بل يجب عليهم الانقلاب قبل دخول تلك الأطراب والأزقان والتنحي عنهم" هذا النص المدون قبل دخول المرابطين الأندلس بأكثر من أربعين عاما،
 وقبل وفاة ابن قزمان بأكثر من مئة عام، يبين ليس فقط وجود الزجل بل فرض قوانين وتعاليم متعلقة به.
وحين سقط ملوك الطوائف، بعد معركة الزلاقة بأربع سنين، 
ومنهم المعتمد بن عباد، وحكم الأندلس المرابطون حكما مباشرا، انتشر الزجل حتى اكتسح الشعر الفصيح
 طمعا بجوائز المرابطين الذين لا يفهمون الشعر العربي الفصيح، 
وتذكر هنا قصة طريفة تدل على هذا المعنى، وهي أن يوسف بن تاشفين لما انصرف إلى حاضرة ملكه بإفريقيا، بعد أن صد المسيحيين، عن ملوك الطوائف بمعركة الزلاقة، كتب له المعتمد رسالة 
تضمنت بيتين من نونية ابن زيدون، هما:
بنتم وبنا فما ابتلـت جوانحنا شوقــــا إليكم ولا جفت مآقينا
حالت لفقدكــــم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
فلما قرأ البيتان على ابن تاشفين قال للقارئ: يطلب منا جواري سودا وبيضا، فأجابه القارئ: لا يا مولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيضا، فعاد نهاره ببعده ليلا لأن أيام الحزن أياما سودا، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده

وقد عاد ابن تاشفين إلى الأندلس فخلع المعتمد عن ملكه، وقتل أولاده، 
ثم نفاه وسجنه هو وعائلته بأغمات في القصة المشهورة، ثم حكم الأندلس 
حكما مباشرا، مما أضعف الآداب الفصيحة المعتمدة كثيرا على النخب الحاكمة، فجنح بعض الشعراء إلى إنشاء الزجل السهل الفهم، 
حتى يضمنوا لفنهم سوقا رائجة، إلى أن جاءت مرحلة ابن قزمان 
وبدأ تدوين الزجل، والتدوين عنه، في القرون الخامس والسادس والسابع والثامن،
 كما أصبح بعض الوزراء ينظمون الزجل ويؤرخون للزجالة، كالوزير لسان الدين بن الخطيب، فمن أزجاله قوله:
امزج الأكواس واملالي تجدد ماخلق المال إلا أن يبدد
وقوله:
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي وحين حصل لي قربك سببت قاربي
ودام بقاء الزجل حتى آخر أيام الوجود العربي في الأندلس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق