الأحد، 27 مايو 2018

الدور المزدوج للتطور التكنولوجى


إن الثورة العلمية والتكنولوجية التى أعقبت الثورة الصناعية والتى بدأت منذ النصف الثانى من القرن العشرين حتى الآن
 تضع بين أيدى الإنسان ولأول مرة أدوات ذات فاعلية هائلة، تغير تماما من نوعية علاقته مع الإطار الجغرافى والموارد الطبيعية والمناخ.. الخ
 وتغير أيضاً شكل الحياة اليومية فى كافة المجتمعات البشرية، فلقد تأثرت طرق حياتنا وسلوكنا الاجتماعى بالتقنيات المختلفة ابتداء من أدوات المطبخ حتى السيارة، بل ساهم اختراع البارود والقنابل والمدافع والطائرات وتفتيت الذرة فى تغيير مجرى التاريخ والعلاقات الدولية ومعالم الحياة السياسية
 فلقد أصبحت التكنولوجيا عنصراً أساسيا وهاماً فى كافة مجالات الحياة، حيث استطاعت أن توفر من تكلفة الإنتاج فضلا عن الدقة فى تصميم المنتج طبقا للمواصفات العالمية، هذا بالإضافة إلى ما وفرته من الجهد والوقت اللازمين للاتصال بالعملاء، كما أنها خلقت فرص عمل غير عادية
 فانتشار الحاسبات الآلية وشبكة المعلومات الدولية ساهم فى خلق نظام الصيرفة الإلكترونية والتجارة الإلكترونية، والتعليم عن بعد
والعمل عن بعد من خلال المحادثة الفورية والبريد الإلكترونى، بل ساهم فى ربط العالم شماله بجنوبه وشرقه بغربه حيث الانتقال السريع للمعلومات وسهولة انتقال الأموال والأشخاص.
فلقد أصبح العالم أشبه بقرية كونية  على حد تعبير مارشال ماكليوهن
 فمن خلال التقدم فى وسائل الاتصالات 
(التليفزيون، الأقمار الصناعية، شبكة التليفونات، أجهزة الفاكسات)
 يرتبط الناس مع بعضهم البعض بشكل أكثر قربا، فهم يشاهدون نفس الأحداث الرياضية ويسمعون نفس الخطب السياسية
وعلى الرغم من أن معظم التطورات التكنولوجية تعد إيجابية، فهى تقل تكلفة وأكثر سهولة فى الاستخدام
 كما أنها تؤدى إلى تحرر الإنسانية من العناء والمشقة، وتساهم فى نمو الصناعات والشركات الكبرى 
وتزيد إلى حد كبير من درجة الكفاءة الإنتاجية إلا أن هذه التطورات التكنولوجية سلاح ذو حدين حيث إنها قد تؤدى فى نفس الوقت إلى مشكلات اجتماعية غير متوقعة من ناحية كما أنها وسيلة جذابة لممارسة الأنشطة غير القانونية من ناحية أخرى 
فالتطور التكنولوجى فى مجال الصناعة على سبيل المثال أدى إلى خلق العديد من المشكلات الاجتماعية غير المتوقعة منها: 
تغير أدق القيم
 التى تساعد على تناسق وتماسك النظام الاجتماعى بأكمله، وما قد يترتب على تغير القيم من تفكك المجتمع وخلق مشاكل اجتماعية تؤدى إلى انحراف السلوك.
وجود امرأة جديدة 
تختلف عما هو مألوف من حيث قيامها بكافة الأعمال المنزلية، وقيام المصنع بسلب هذا الدور منها، وتقديم كافة الفنون المنزلية لها وأصبح للمرأة نفس حقوق الرجل، كما أن عمل المرأة فى المصنع جعلها تهمل فى رعاية أطفالها وتأثير ذلك على انحرافهم.
ظهور طبقة البروليتاريا
 حيث يستقل أفرادها ماديا وتضعف صلتهم بالمجتمع الأصلى وما قد يترتب على ذلك من تغيرات هامة تتصل بالعلاقات التى تربطهم بالأسرة ومدى تمسكهم بالعادات والتقاليد الأمر الذى يؤثر فى القيم الاجتماعية ومستويات الطموح وقد ينتهى إلى صراع نفسى واجتماعى يعانيه الفرد أو المجتمع نفسه مما يؤدى إلى زيادة معدلات الجريمة. 
ازدياد معدلات الهجرة إلى الحضر وما قد يتعرض له المهاجرون من مشاكل كالبطالة والتفكك فى وحدة الأسرة وصعوبة تكيف الأفراد فى البيئة الجديدة وهى ظواهر تصاحب فى الغالب الجريمة بكافة صورها. 
كما أن التطور الهائل فى علوم الكيمياء ساهم فى استخدام المحاليل فى جرائم التزوير، وتنوعت المواد التخليقية المخدرة وازدادت خطورتها ودخلت فئات عمرية جديدة فى دائرة الإدمان
 كما أن التطور فى مجال تكنولوجيا الأسلحة أدى إلى استخدام الأسلحة الكاتمة للصوت فى جرائم القتل، واستخدام الأسلحة سريعة الطلقات فى جرائم مقاومة السلطات وجرائم الحرب عن بعد.
 كما أن التطور فى مجال تكنولوجيا السيارات أدى إلى زيادة عدد السيارات المقيدة فى إدارات المرور وترتب على ذلك زيادة نسبة جرائم القتل والإصابة الخطأ، كما استخدمت السيارات فى جرائم النصب وجرائم السطو على البنوك والمحلات التجارية الكبيرة وجرائم الخطف وجرائم التهريب، كما أن السيارات أصبحت محلا لبعض الجرائم، حيث تقع على السيارات جريمة السرقة إما بقصد الحصول على المال بواسطة عصابات سرقة السيارات وإما بقصد الرغبة فى الظهور بواسطة عصابات الأحداث، وإما بقصد تفجيرها فى عمليات إرهابية بواسطة الجماعات الإرهابية كما أن التقدم فى تكنولوجيا الإعلام جعل وسائل الإعلام متخمة بتقارير عن جرائم العنف بكافة أنماطها، حيث تعرض كاميرات التلفزيون فى القنوات الفضائية جثث ودماء الضحايا بشكل مرعب، واصبح تكرار وانتشار جرائم العنف والسرقة بالإكراه مثل الطاعون فى انتشاره فى كافة أنحاء العالم
 فنشر أخبار الجرائم بصورة مكثفة فى الصحف المكتوبة يولد إحساسا لدى القراء بالتساهل مع المجرمين، كما قد يعد ذلك بمثابة الوسيلة التى يتعلم منها القارئ أساليب الإجرام، أو بمثابة إضرار لحسن سير العدالة.
 كما أن عرض أفلام العنف فى السينما والتليفزيون قد يولد تعاطفا لدى المشاهد مع العنف والميل إلى التقليد، كما أن عرض صور حياة الرفاهية والبذخ الكبير لدى بعض الطبقات الغنية قد يضاعف ويقوى شعور المشاهد بالرغبة الطاغية لبلوغ هذه المستويات فإن تعذر بلوغها بالوسائل المشروعة ربما يؤدى ذلك إلى محاولة بلوغها بالوسائل غير المشروعة هذا بالإضافة إلى دور الأفلام العاطفية فى نمو الغرائز الجنسية
كما أن التطور التكنولوجى قد يؤدى إلى اختفاء بعض أنواع الجرائم بصورة كاملة، وذلك بسبب تغيير الظروف أكثر من تغير وسائل الوقاية فاختراع المراكب التجارية أدى إلى اختفاء جرائم القرصنة حيث بلغت مثل هذه المراكب من الكبر والسرعة ما لا يستطيع معه القراصنة مهاجمتها، كما أن المجرمين بشكل عام لا يفكرون فى السطو على الأماكن التى تتخذ احتياطات وقائية كافية كاستخدام أجهزة الإنذار لتنبيه الحراس، واستخدام أجهزة لتصوير مسرح الحادث
كما أن للتطور التكنولوجى انعكاساته السلبية على النطاق الأمنى فالتطور التكنولوجى فى وسائل الاتصال ونقل المعلومات هيأ للعصابات الإجرامية الفرصة لإجراء عملياتهم الإجرامية بأسلوب لا يخضع دائما لمراقبة الشرطة مباشرة الأمر الذى يترتب عليها صعوبة إحكام قبضة الأمن على مثل هذه العصابات، هذا بالإضافة إلى سرعة انتقال الأساليب الإجرامية الجديدة أو المبتكرة وطرق ارتكاب الجرائم بين التشكيلات العصابية بعضها البعض وزيادة تعاونها معا واعتمادها على أفراد من تشكيلات عصابية أخرى للقيام نيابة عنها ببعض المهام التى توكل إليها. كما أن التطور التكنولوجى أدى إلى تحول نسبة كبيرة من الجرائم التقليدية إلى جرائم ذوى الياقات البيضاء التى يقوم بها مجرم مثقف يستخدم بالإضافة إلى الأساليب التكنولوجية الحديثة ذكاءه وإمكانياته العلمية والعملية بدون إراقة دماء
وباختصار شديد يمكن القول أن التطور التكنولوجى أدى إلى ظهور ما يسمى بالجرائم المعولمة أو الجرائم عابرة القوميات أو جرائم الشركات متعددة الجنسيات حيث تقوم هذه الشركات بممارسة الجريمة على نطاق دولى ولذلك ظهرت جرائم غسيل الأموال وجرائم ذوى الياقات البيضاء، وتجارة المخدرات وجرائم الائتمان المصرفى وجرائم الأسلحة والجرائم الضريبية، وشبكات الدعارة الدولية وتهريب الأموال… إلخ.
رابعاً: التكنولوجيا والجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية
إن التطور التكنولوجى فى مجال المعلومات والاتصالات ساعد على تزايد درجة الاندماج والارتباط بين الدول والمجتمعات وظهور الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وتحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق أمام تدفقات رءوس الأموال المصرفية والاستثمارات الدولية
وإلغاء الحدود الإقليمية فالأقمار الصناعية وشبكة المعلومات الدولية جعلت العالم اليوم يمثل مجتمعا واحداً حيث الانتقال السريع للمعلومات وسهولة انتقال الأموال والأشخاص كل هذه الظروف هيأت مناخاً جديداً مشجعاً لارتكاب الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية سواء ارتكبت فى دولة بناء على تخطيط وتنفيذ جماعة إجرامية منظمة تمارس أنشطة إجرامية فى أكثر من دولة
 أو تم التخطيط لها فى دولة، وتنفيذ ما خطط له فى دولة أخرى، أو ارتكبت فى دولة واحدة ولكن ترتب عليها آثار شديدة فى دولة أو دول أخرى. 
فالحدود الاقتصادية المفتوحة جعلت الجريمة المنظمة قادرة على تنفيذ مآربها الإجرامية عبر الحدود، وأن الظروف الصعبة التى تحيط بالدول النامية كانت بمثابة التربة الخصبة لنمو جرائم غسيل الأموال والاتجار غير المشروع فى المخدرات والإرهاب والغش
 والفساد تلك الجرائم التى ارتدت عباءة تشجيع الاستثمار وتوريد السلع الرأسمالية ولقد تميزت الجريمة المنظمة بأنها عابرة لحدود الأوطان، وأدى نشوء السوق العالمية المالية إلى ممارسة الجماعات الإجرامية المنظمة التأثير على مصادر السلطة وتوريطها فى الفساد، وتشير أحد الدراسات التى عرضت فى المؤتمر العاشر لمنع الجريمة فى فينا 2000 
أن معدلات الفساد المتوقعة بين السياسيين تجاوزت 75% فى جميع مناطق العالم فى حين سجلت أمريكا الجنوبية والشرق الأقصى معدلات قياسية بلغت 90%. 
وتشير الدراسات التى أجراها صندوق النقد الدولى أن البلدان التى يوجد بها فساد تحقق معدلات استثمار تقل 5% عن البلدان التى لا تعتبر فاسدة
 ولقد اكتسب الفساد بعدا دوليا مع تزايد عولمة الأسواق وما يصاحب ذلك من تدويل للأنشطة غير القانونية، فالفساد من الجرائم المدمرة للاقتصاد القومى وهى من الجرائم التى تسير جنبا إلى جنب مع إساءة استخدام السلطة والامتيازات السياسية والاقتصادية والجريمة المنظمة
ولقد أضافت الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية بعداً سلبيا للعولمة مع غيرها من السلبيات الاقتصادية التى كان لها آثارها السلبية على الدول النامية
فلقد أصبح الفساد أداة من الأدوات المفضلة للجريمة المنظمة بل جزء لا يتجزأ من استراتيجيتها، وذلك باعتبار أن المال الفاسد نوع من الاستثمار الناجح للجماعات الإجرامية المنظمة حيث يزيد من فرص نجاح جرائمهم
 ويقلل من ملاحقتهم والقبض عليهم ومحاكمتهم. 
فالتطور التكنولوجى فى وسائل المواصلات والاتصالات والتقنيات الحديثة أدى إلى التقارب الشديد بين الدول وجعل الجريمة لا تعرف الحدود الطبيعية أو الصناعية التى تفصل بين الدول
 وأصبح الإجرام ينتقل فى لحظات من دولة إلى أخرى لدرجة أن الجريمة قد يتم الإعداد لها فى دولة ثم يشرع فى ارتكابها فى دولة ثانية، وربما تنفذ فى دولة ثالثة، وقد تظهر آثارها فى دولة رابعة.
فالعصابات الإجرامية تستخدم الوسائل التكنولوجية الحديثة لتوسيع نشاطها الإجرامى فى مجالات الاتجار فى المخدرات وغسيل الأموال والفساد والإرهاب وتجارة الرقيق، حيث تشير إحصاءات الأمم المتحدة الخاصة بالجريمة والعدالة عام 2000 إلى أن هناك 200 مليون مهاجر فى العالم 
يعانون من الاستغلال والرق والاستعباد من جانب المافيا الإيطالية واليابانية والصينية نصفهم من النساء اللاتى يتم استغلالهن فى احتراف الدعارة التى يقدر عائدها السنوى بأكثر من 7 مليارات دولار وتحتل المركز الثانى بعد تجارة المخدرات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق