السبت، 19 مايو 2018

الأمراض النفسية والعقلية عبر التاريخ-1


إن تاريخ الأمراض النفسية والعقلية يوضح لنا التطور والتقدم الذي لاحق هذا الفرع من الطب في الآونة الأخيرة ....
فبعد أن كانت الأمراض النفسية والعقلية شرا مستطيرا ، وسيطرة من أرواح خبيثة ، وعمل من أعمال الشيطان ، وكأنها من صنع قوى خارقة أوجدتها ، فكأنها حدثت نتيجة لسخط الآلهة ، ، أو إذا تم الشفاء منها وزالت ، فإنما يكون البرء منها نتيجة لرضا تلك الآلهة
وبعد أن كان المرضى يحرقون أحياء في الشوارع ، نظرا لتلوثهم بهذه الأرواح الشريرة ، فكان ينظر إليهم أحيانا أنهم أناس مغضوب عليهم من الآلهة ، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناسا منبوذين ... ولهذا فكثيرا ما كانوا يقتلون تخلصا منهم ومن الشياطين التي تلبستهم ، أما المحظوظين منهم ، ممن كانوا يكابدون حالات الجنون أخف وطأة ، فكانوا يحاطون بالرعاية ، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت ٍتخلع عليهم الألبسة المزركشة ، وتزين هاماتهم بأكاليل الغار
بعد كل ذلك تطور هذا الفرع من الطب تدريجيا ، عندما جاء أبو قراط - في القرن الخامس قبل الميلاد - وقال : ليكن معلوما أن المخ يحتوي على مناطق محددة هي مواطن اللذة ، والانشراح ، والمرح ، والميل إلى اللهو ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإنه يحتوي – في تلافيفه – على ما هناك من حزن ، وأسى ، وامتعاض ، وأسف ، وأنه بسبب ما يتعرض له الدماغ أحيانا من إعطاب ، يقع بعض الناس فرائس في شراك الجنون ، والهذيان ، وما يتعرض له الإنسان من مؤثرات ومخاوف تؤرقه ليل نهار ، ومصدر كل ذلك هو ما يصيب الدماغ من خلل .
ومن ملاحظات أبوقراط قوله ، مثلا ، إن أي عطب أو خلل يحصل بسبب صدمة معينة في أحد نصفي الدماغ ، يؤدي بدوره إلى حدوث تشنجات في الجانب الآخر من الجسم .
وقد قسم أبوقراط أنماط الجسم إلى أربعة هي :
1 – المزاج الدموي
2 – المزاج البلغمي
3 – المزاج الصفراوي
4 – المزاج السوداوي
وأضاف أبوقراط أن خصائص هذه الأمزجة ترتبط ارتباطا وثيقا بكل من البيئة الطبيعية – أي المناخ الجغرافي – وبتأثير العوامل الاجتماعية .
وقام أبوقراط بمحاولات حثيثة في معالجة الأمراض العقلية ، فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلا ، أوصى باستخدام أسلوب العلاج بالتنفير : أي إحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر منها ، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرة مقززة  أو عن طريق فصده وإسالة دمه وهو في حالة سكره ، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما يتعاطاه من شراب مسكر ن وبذلك يكره المادة التي أدمنها . وكان يقترح علاجا لبعض المرضى عقليا ونفسيا بأن يغيروا أماكنهم ، فتغيير المكان ، كما اقترح ، من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة ، فينسى المريض آلامه وهمومه .
وقد أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى انحطاط في العلوم القديمة وتدهورها ، ولاسيما في الطب الذي أصابه الانتكاس والوهن . وكانت العصور الوسطى في أوربا فترة ظلام حالك ، حيث تم فيها إبعاد العلوم إلى زوايا الإهمال بسبب التعصب الديني آنذاك . ولكن بسبب ما تعرضت له حينذاك المراكز الثقافية الرومانية ، من حروب طاحنة ، ومن قحط وجدب ، ودمار وتدمير ، كل ذلك أدى إلى ركود العلم ، وتفشى الجهل ، وانتشار الظلام ، فصار الطب في قبضة قلة من الجهلة الذين كانوا لا يتورعون عن اتهام أي معترض على أساليبهم البالية في الطب تلك ، بالزندقة ، ومن ثم تعريضه إلى أفظع أنواع العقاب .
كان الاعتقاد السائد آنذاك أن الاضطرابات العقلية تصيب من يصاب بها بسبب مس من الشيطان يتخبطه ، فيتلبسه في إهابة ، أو أنها تنشأ نتيجة تعرض المرء للسحر الأسود ، أو التعرض للأرواح الشريرة ، وأن الشفاء من ذلك كله يكمن في وجوب تعذيب المرضى ، كما كان يظن المشعوذين واهمين .
ومن القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر ، وفي الشرق ، كان الطب يخطو نحو مزيد من الارتقاء ، وأن كثيرا من العلماء الأوربيين قد نجوا مما كان يتهدد حياتهم من بلدانهم ، فلجأوا إلى بلدان حوض البحر المتوسط ، وبلاد فارس ، وفي بعض المحميات العربية الأخرى .
وفي القرن السادس عشر مثلا كانت هناك أفران قد أعدت خصيصا لغرض معالجة المرضى عقليا ، وفي تلك الأفران كان يؤتى بالمريض فيدس رأسه في ذلك الفرن الساخن ، مع بعض الكلمات تقال له قبيل ذلك الإجراء الخالي من المسحة الإنسانية : " في هذا الفرن ستشفى سريعا ، فيه يكمن شفاؤك ، وسرعان ما سيرتد إليك عقلك " .
وفي عصر النهضة حققت العلوم الطبيعية والعلوم الطبية تقدما سريعا وملحوظا . وفي هذه الأثناء وجدت آراء أبوقراط في الطب طريقها إلى الانتعاش من جديد ، فلم يعد ينظر إلى المصابين بالأمراض العقلية بأن بهم أرواحا شريرة تلبستهم فأفسدتهم ، ألا أن هؤلاء المرضى كانوا موضع ملامة ، وكانوا يحتجزون عادة مع عتاة المجرمين .
وعندما بدأت النظرة الإنسانية ، والتطور في العلاج - في أوائل القرن التاسع عشر - وظهر في الأفق علماء وهبوا أنفسهم لخدمة وتقدم هذا العلم ...
وفي أوروبا عامة ، وفي فرنسا خاصة - في القرن التاسع عشر - تطورت الاتجاهات نحو من يعانون من المرض النفسي أو العقلي تطورا كبيرا ، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها الطبيب الفرنسي " فيليب بينيل ، ومن بعده تلميذه " أسكويرول " الذي رفع في الطب النفسي شعار : ( أسعفوهم بالعلاج ، لا بالصدقات المتبوعة بالإزعاج ) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق