وأقصدُ بها العزلة عن الشرِّ
وفضولِ المباحِ ، وهي ممّا يشرحُ الخاطر ويُذهبُ الحزن .
قال ابن تيمية : لا لابدَّ
للعبدِ من عزلةٍ لعبادتِه وذكرِه وتلاوتِه ، ومحاسبتِه لنفسِه ، ودعائِه
واستغفارِه ، وبُعدِه عن الشرِّ ، ونحوِ ذلك .
ولقد عقد ابنُ الجوزي ثلاثة
فصولٍ في ( صيْدِ الخاطرِ ) ، ملخَّصها أنه قال : ما سمعتُ ولا رأيتُ كالعزلة ،
راحةً وعزّاً وشرفاً ، وبُعداً عن السوءِ وعن الشرِّ ، وصوْناً للجاهِ والوقتِ ،
وحِفظاً للعمرِ ، وبعداً عن الحسَّادِ والثقلاءِ والشامتين ، وتفكُّراً في الآخرةِ
، واستعداداً للقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، واغتناماً في الطاعةِ ، وجولان الفكر فيما
ينفعُ ، وإخراج كنوزِ الحِكَمِ ، والاستنباط من النصوصِ .
ونحو ذلك من كلامِهِ ذكرهُ في
العزلةِ هذا معناه بتصرُّف .
وفي العزلةِ استثمارُ العقلِ
، وقطْفُ جَنَى الفكرِ ، وراحةُ القلبِ ، وسلامةُ العرْض ، وموفورُ الأجرِ ،
والنهيُ عن المنكر ، واغتنامُ الأنفاسِ في الطاعةِ ، وتذكُّرُ الرحيمِ ، وهجرُ
الملهياتِ والمشغلاتِ ، والفرارُ من الفتنِ ، والبعدُ عن مداراةِ العدوِّ ،
وشماتةِ الحاقدِ ، ونظراتِ الحاسدِ ، ومماطلةِ الثقيلِ ، والاعتذارِ على المعاتِبِ
، ومطالبةِ الحقوقِ ، ومداجاةِ المتكبِّرِ ، والصبرِ على الأحمقِ .
وفي العزلةِ سَتْرٌ للعوراتِ
: عوراتِ اللسانِ ، وعثراتِ الحركاتِ ، وفلتاتِ الذهنِ ، ورعونةِ النفسِ .
فالعزلةُ حجابٌ لوجهِ
المحاسنِ ، وصدَفٌ لدُرِّ الفضلِ ، وأكمامٌ لطلْع المناقبِ ، وما أحسن العزلةَ مع
الكتابِ ، وفرةً للعمرِ ، وفسحةً للأجلِ ، وبحبوحةً في الخلوةِ ، وسفراً في طاعةِ
، وسياحةً في تأمُّلٍ .
وفي العزلةِ تحرصُ على
المعاني ، وتحوزُ على اللطائفِ ، وتتأملُ في المقاصدِ ، وتبني صرح الرأيِ ، وتشيدُ
هيْكلَ العقلِ .
والروحُ في العزلةِ في جَذلٍ
، والقلبُ في فَرَحٍ اكبرَ ، والخاطرُ في اصطيادِ الفوائدِ .
ولا تٌرائي في العزلةِ :
لأنهُ لا يراك إلا اللهُ ، ولا تُسمعِ بكلامِك بشراً فلا يسمعك إلا السميعُ
البصيرُ .
كلُّ اللامعين والنافعين ،
والعباقرِة والجهابذةِ وأساطين الزمنِ ، وروَّادِ التاريخِ ، وشُداةِ الفضائلِ ، وعيونِ
الدهرِ ، وكواكبِ المحافلِ ، كلُّهم سَقَوْا غَرْسَ نُبْلهم من ماءِ العزلةِ حتى
استوى على سُوقِهِ ، فنبتتْ شجرةُ عظمتِهم ، فآتتْ أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ
ربِّها .
قال عليُّ عبدِالعزيز الجُرْجانيُّ
:
يقولون لي فيك انقباضُ وإنما
|
|
رأوا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحْجَما
|
إذا قيلَ هذا موردٌ قلتُ قدْ أَرَى
|
|
ولكنَّ نفس الحُرِّ تحتملُ الظَّما
|
ولم أقضِ حقَّ العلمِ إن كنتُ كلَّما
|
|
بدا طمعٌ صيَّرتُهُ لِيَ سُلَّما
|
أأشقى به غَرْساً وأجنيهِ ذلَّةً
|
|
إذن فاتَّباعُ الجهلِ قدْ كان أحزما
|
ولو أنَّ أهل العلمِ صانوه صانهمْ
|
|
ولو عظَّموه في النفوسِ لَعُظَّما
|
ولكنْ أهانُوهُ فهانوا ودنَّسوا
|
|
مُحَيَّاهُ بالأطماعِ حتى تهجَّما
|
وقال أحمدُ بنُ خليلٍ
الحنبليُّ :
مَنْ أراد العزَّ والرا
|
|
حةَ مِن همِّ طويلِ
|
ليكُنْ فرداً من النا
|
|
سِ ويرضى بالقليلِ
|
كيف يصفو لامرئٍ ما
|
|
عاش مِنْ عيشٍ وبِيلِ
|
بين غمزٍ مِنْ ختولٍ
|
|
ومداجاةِ ثقيل ِ
|
ومداراةِ حسودٍ
|
|
ومعاناةِ بخيلِ
|
آهِ منْ معرفةِ النا
|
|
سِ على كلِّ سبيلِ
|
وقال القاضي عليُّ بن
عبدالعزيزِ الجرجانُّي :
ما تطعَّمتُ لذةَ العيشِ حتَّى
|
|
صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا
|
ليس شيءٌ أعزّ من العلـ
|
|
ـم فما أبتغي سواهُ أنيسا
|
إنَّما الذُّل في مخالطةِ النا
|
|
سِ فدعْهُم وعِشْ عزيزاً رئيساً
|
وقال آخر :
أنِسْتُ بوحدتي ولزِمتُ بيتي
|
|
فدام لِي الهنا ونَمَا السرورُ
|
وقاطعتُ الأنامَ فما أبالي
|
|
أسارَ الجيشُ أم ركِبَ الأميرُ
|
وقال الحميدي المحدِّث :
لقاءُ الناسِ ليس يُفيدُ شيئاً
|
|
سوى الإكثارِ منْ قيلٍ وقالِ
|
فأقْلِلْ منْ لقاءِ الناسِ إلاَّ
|
|
لكسبِ العلمِ أو إصلاحِ حالِ
|
وقال ابنُ فارس :
وقالوا كيف حالُك قلتُ خيراً
|
|
تًقضَّى حاجةٌ وتفوتُ حاجُ
|
إذا ازدحمتْ همومُ الصدرِ قُلْنا
|
|
عسى يوماً يكونُ لهُ انفراجُ
|
نديمي هِرَّتي وأنيسُ نفسي
|
|
دفاترُ لي ومعشوقي السراجُ
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق